samedi 15 mars 2014

الحكامة المحلية والتنمية.

نتيجة لهذا التطور، تجاوز القرن الواحد والعشرين زمن المقاولة والدولة كمكونين أساسيين للأوطان ليحل محلها زمن المدينة والتراب المحلي والإقليمي والجهوي. إنه بداية قرن جديد أصبحت فيه التنمية الاقتصادية مرتبطة أشد الارتباط بالدينامية الترابية المحلية وبمدى قوة التفاعل والتكامل ما بين العالمين الحضري والقروي من جهة، وما بين المدن الصغرى والمتوسطة والحاضرات الإقليمية والجهوية الكبرى من جهة أخرى (أقطاب التنمية الاقتصادية والاجتماعية). لقد أصبح تحقيق التنمية المنشودة مرتبطا أكثر بمدى وضوح توزيع الاختصاصات بين مستويات الحكامة ونجاعة تقييم وتقويم الفعل العمومي بشقيه اللامركزي واللامتمركز (الاستقلالية الترابية المعنوية والمالية المقرونة بالالتزام بحسن التسيير وضرورة التعاون بين مختلف مستويات الحكامة، كل واحد بوسائله، في رفع التحديات المشتركة وتجسيد التنوع والاختلاف كأساس لتقوية الوحدة). لقد اتضح اليوم أن التنمية الاقتصادية الوطنية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال قدرة الوحدات الترابية على تدبير شؤونها بنجاعة ومسؤولية أمام المستويات الأخرى. وعندما نتكلم على الوحدة نعني بذلك، إضافة إلى تقوية الحس الوطني والغيرة على التراب الوطني ووحدته والاستعداد للتضحية من أجل حمايته، الرفع من نجاعة الفعل الجماعي للمجموعات البشرية، ومن مستوى القدرة والكفاءة في تنظيم وتعبئة كل الفاعلين حول المشاريع المشتركة، وفتح المجال للحوار والإنصات والتأثير المتبادل بشكل دائم، وبالتالي ترسيخ الشرعية والمشروعية وحرية التفاوض والحق في المبادرة لكل الأطراف والفاعلين والتركيز على عقد شراكات حقيقية بمراحل واستحقاقات مشتركة.

مفهوم الحكامة.

مع التطورات السياسية التي عرفها ويعرفها العالم، لم يعد بإمكان أي نظام سياسي قيادة شعبه بالاستبداد والديكتاتورية، بل توج مسار تطور الترابطات والروابط والتفاعلات بتحويل مفهوم الحكامة، كمصطلح قديم، إلى ما يسمى بالحكامة الجيدة. لقد تطورت العلاقة ما بين 
الحاكم والمحكوم، وما بين الفاعلين بصفة عامة، بسبب حجم وتعقيد الترابطات بين الأشخاص والمجتمعات، وبين الإنسانية ومحيطها البيئي، وبين الدولة والمجتمع. ونتيجة لهذا التعقيد، لم يعد في متناول الحكام قيادة شعوبهم بالإكراه والتبعية، بل برزت الحاجة، بعد سقوط جدار برلين وإعلان النظام العالمي الجديد وبروز الحاجة إلى مواجهة التأثيرات السلبية لليبرالية الاقتصادية والعولمة في شقيها الإيديولوجي والثقافي، إلى ضرورة تحقيق الكفاءة المجتمعية بمقومات جديدة تربط طموح تقوية الفعل السياسي والاقتصادي بالتمثيلية الديمقراطية والاعتراف بالخصوصيات الترابية والمصالح المشروعة للفاعلين، وبضرورة تسيير وتدبير الترابطات والروابط بطريقة تفاوضية سلمية. إنه زمن الاعتراف بالطموحات المشروعة للفاعلين في سياق تنافسي بمكونات أربع لكل مكون منها دور خاص: المقاولة، السوق، والدولة الوطنية، والديمقراطية التمثيلية كإيديولوجية كونية رسمية متوافق بشأنها (يجب أن تضمن تناوبا حقيقيا على الحكم ما بين يمين ويسار). ونتيجة لهذه المتغيرات أصبحنا نتكلم عن الحكامة الجيدة في كل الميادين والقطاعات كالأمن والماء والطاقة والمالية والعلوم...إلخ إلى درجة أصبح الهم الأساسي بالنسبة للدول والمجتمعات هو تحقيق القدرة والكفاءة في المزج بين كل الوسائل (التقنية، والعلمية، والموارد البشرية، والمالية،...) وتوجيهها من أجل تأمين ازدهار حقيقي للأفراد والجماعات من خلال تنظيم التعاون والتعاضد بين الفاعلين العموميين والخواص والمجتمع المدني (تقوية التقنيات التعاضدية)، وتطبيق الشرعية والمشروعية كمبدأ عام وشامل للمسؤولية. إن تحويل تفعيل الحكامة الجيدة إلى أساس للاستقرار والوحدة والتنمية يتطلب تحقيق الرضا المجتمعي على منطق التدبير وأشكال ممارسة السلطة (الموافقة الشعبية) والانخراط العميق للساكنة في مختلف الأوراش التنموية (انخراط بقدرات ومؤهلات). بتطبيق الحكامة الجيدة، لا يمكن للعبة الديمقراطية أن تتحول إلى آلية لاستبداد الأغلبية وهيمنة مصالحها وإقصاء الأقليات، بل تكون أساس تحويل الدولة الوطنية إلى محرك محوري لسياسة التنمية، ومحفز لكل الفاعلين على التعبئة واحترام القواعد المتوافق بشأنها، والالتزام بالمسؤولية (القدرة والاستطاعة والمعرفة) بأبعادها الأخلاقية (الاعتزاز بالانتماء للمجموعة الترابية والوطن) والقانونية (اعتماد الشفافية، والقيام بالواجب، والبحث عن الأجوبة الأكثر تكيفا مع الأهداف العامة، وضرورة تقديم الحساب ).
مفهوم الحكامة الجيدة
إن مصطلح "الحكامة" مرتبط بمصطلح "الحكومة" كسلطة عمومية وهرم مهيكل على شكل بنيات مؤسساتية. وبإضافة كلمة "جيدة" لمصطلح "الحكامة" أصبحت الحكومة مجرد فاعل في صنع القرار عوض احتكاره، فاعل له مسؤولية محورية في خلق الالتقائية وتقوية فعل كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين ومكونات المجتمع المدني. إن التداول الفعلي لمصطلح "الحكامة" ابتدأ في أواخر القرن 19 حيث واكب الانتقال من الاعتماد على الفلاحة إلى الصناعة (ظهور المقاولة الصناعية)، وتم طرحه رسميا في الخمسينات من القرن الماضي من طرف البنك الدولي موازاة مع طرح إشكالية ربط تأهيل الإدارة الحكومية بالنمو الاقتصادي وضرورة تحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمعات. وتطور المصطلح في التسعينات بعدما تم التركيز على الأبعاد الديمقراطية في الحكم، وضرورة تدعيم المشاركة السياسية، وتفعيل دور المجتمع المدني، في أفق ربط أسلوب تدبير شؤون الدولة والمجتمع بدرجة رخاء هذا الأخير. لقد تطور المفهوم نتيجة ثلاث عوامل أساسية أولها التطور الذي عرفته طبيعة ودور الحكومة، وثانيها التطور الأكاديمي والعلمي والتكنولوجي، وثالثها ضرورة استحضار العامل الخارجي في عملية صنع السياسات العمومية. إنه تحول تجاوز وضع مركزة التدبير الحكومي بيد بيروقراط ليحل محله الرواد، وبذلك تحول دور الدولة من دور منفذ إلى دور الموجه والمنشط. فبعدما كانت الحكامة مرادفة للتعاون بين مختلف مصادر السلطة في القرون الوسطى (الكنيسة، النبلاء، التجار، الفلاحون الكبار،...)، سيتم استعمالها فيما بعد من طرف البنك الدولي لتدل على أسلوب ممارسة القوة في إدارة مختلف الموارد من أجل الرفع من مستوى التنمية وضمان توزيع سلطوي ناجع للقيم.
ولهذه الاعتبارات، لا يمكن للحكامة أن تكون جيدة إلا بتحقيق نسق من المؤسسات الرسمية والمجتمعية يكون مهيكلا على شكل شبكة من علاقات الضبط والتعاون والمساءلة المستمرة، هيكلة تمكنه من التعبير عن حاجيات الناس تعبيرا سليما، ومن الوصول إلى مستوى الاستعمال الأقصى للموارد البشرية والمالية والوسائل التقنية، وإلى درجة عليا في استعمال الآليات الضرورية لتقويم وتقييم مختلف السياسات وتصحيحها.
إن الحكامة الجيدة لا يمكن لها أن تستقيم وتترسخ في منطق الفعل العمومي إلا عندما تتضاعف المجهودات وتتقوى الإرادات والاستعدادات لتوفير المقومات الضرورية الأساسية لإقامة الدولة الديمقراطية النافعة. إنها المرحلة التي ستتمكن من خلالها الدولة (المؤسسات والسلط) والمجتمع (منظمات المجتمع المدني) من التصدي بشكل دائم لسوء استعمال السلطة والنفوذ، أي الوصول إلى مرحلة تمارس فيها السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية بمنطق يضمن إدارة مختلف الموارد بنجاعة وشفافية وفعالية. الحكامة الجيدة إذن هي نظام تدبيري متكامل يرفع من مردودية الفاعل إلى أقصاها ويسائله سياسيا وإداريا عن حصيلة منطق تدبيره وإدارته للموارد العامة.
كما أكد الباحثون أنه كلما زادت حدة التعقيد والتنوع والدينامية وتعددت الترابطات والروابط داخل مؤسسة أو منظمة ما، كلما ازدادت الحاجة إلى تفعيل حكامة تمكن من الرفع من القدرة على خلق وتدبير شبكات تنظيمية ناجعة للفاعلين. وكلما كان التدبير محكما كلما سهلت عملية تحقيق النجاعة، والدقة، والمرونة في الاستجابة للحاجيات، والشفافية، وإنضاج التوافقات الايجابية، والإنصاف،...إلخ. بعبارة أخرى، بتفعيل الحكامة الجيدة تتخذ القرارات الجيدة في إطار المسؤولية المشتركة للفاعلين، ويتم تحقيق الأهداف المشتركة، ونيل رضا وثقة المواطنين.
وعليه، يتضح أن الوصول إلى مستوى الحكامة الجيدة ليس بالأمر الهين لأنه يتطلب أولا الإرادة والاستعداد، وثانيا القدرة على إبداع الميكانيزمات الناجعة، وثالثا توفير الموارد التي تستجيب لطموحات رفع التحديات من أجل تحقيق الرهانات والتي نجد على رأسها تحقيق نجاعة التدبير الذاتي للمجتمع (تدبير التنمية بالشكل الذي يحقق جودة الحياة). كما ثبت عبر التجارب أن الوصول إلى هذا المستوى من النجاعة والمردودية في المجتمع ليس بالأمر السهل، بل يبقى مرهونا إلى حد بعيد بمدى التوفر على منظمات ومنظومات اجتماعية وسياسية واقتصادية مهيكلة بالشكل الذي يضمن اتفاق الفاعلين الاستراتيجيين على إمكانية اتخاذ قرارات بشكل جماعي، وعلى حل مشاكلهم من خلال منظومة من القواعد والمساطر المتوافق بشأنها.
شروط تحقيق الحكامة الجيدة
لا يمكن للحكامة الجيدة أن يكون لها مدلولا حقيقيا على أرض الواقع إلا في حالة توفير الشروط الضرورية التالية:
الاعتراف بحق الفاعلين في الدفاع والتفاوض والترافع على مصالحهم المشروعة وحقهم في المشاركة في تدبير الشأن العام،
قدرة الحكومات على بلورة المخططات الإستراتيجية من أجل تحقيق ذلك. ويتطلب الأمر في هذا الشأن بلورة مخططات واضحة المعالم والأهداف والعمل على تنفيذها بواسطة هياكل قوية (مؤسسات باختصاصات واضحة وعنصر بشري متميز بكفاءته وجودته ومرونته)،
اعتماد الآليات الضرورية لتعميم التحسيس بضرورة المشاركة المجتمعية، وبأهمية المراقبة المستمرة،
ضرورة التوفر على منظومة إعلام وتواصل ناجعة ومؤثرة تعتمد في إشعاعها لمقومات الحكامة الجيدة على بنك للمعلومات يسهل عملية اتخاذ القرارات بعقلانية،
إقرار المساواة ومقاربة النوع في المشاركة (ترسيخ حق النساء والرجال في الحصول على الفرص المتساوية)، وتأمين فرص متساوية للاستفادة من الخدمات، وضمان الحرية في إبداء الرأي في البرامج والقرارات، وتوفر القوانين الضامنة لحرية المشاركة، وضمان شفافية القوانين وانسجامها في التطبيق،
تقنين الحق في المعلومة وإفساح المجال للجميع للوصول والإطلاع عليها بالشكل الذي يمكنه من المشاركة الواعية في اتخاذ القرار،
تقنين حرية الفاعل في التعبير على طموحاته والتفاوض بشأنها والتنسيق مع باقي الفاعلين من أجل الوصول إلى التوافقات المطلوبة،
إنضاج الشروط الموضوعية للرفع من مستوى القدرة على التحكيم بين المصالح المتضاربة لمختلف الفاعلين وتوجيهها لتحقيق الإجماع بشأن المصالح العامة والعمل على تحقيقها بفعالية ورؤية إستراتيجية

واقع الحكامة الامنية بالمغرب .

بعد تناسل التقارير الحقوقية التي تتحدث عن تجاوزات وإفراط في استعمال القوة من طرف القوات العمومية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وأمام الغموض الذي
يلف عمليات التدخل ومختلف تحركات هاته الأجهزة، وصعوبة تحديد المسؤولية المباشرة عن كل عملية أو تحرك، ومع ما يعرفه تنظيم وهيكلة مختلف الأجهزة الأمنية في البلاد من غموض وغياب الوضوح، يـُطرح موضوع الحكامة الأمنية بشكل ملح، خصوصا بعد إقرار الدستور الجديد للمملكة، الذي اعتمد مفهوما محوريا وشاملا لمختلف القطاعات والمسؤوليات السياسية والإدارية يقضي بربط المسؤولية بالمحاسبة، بما يفيد بأن كل من يمارس مسؤولية من المسؤوليات يخضع للمراقبة والمحاسبة والتقييم، وأنه ليس هناك من هو، أيا كان، فوق المحاسبة، وما يقتضيه هذا المبدأ من ضرورة الاحتكام إلى قواعد الشفافية والنزاهة والوضوح في الممارسة الإدارية والسياسية، فما بالك إذا كانت المسؤولية مرتبطة بالمجال الأمني الأكثر حساسية والأكثر ارتباطا وتأثيرا على الحقوق والحريات؛ كما أن الدستور عند حديثه عن المجلس الأعلى للأمن أناط به مهمة السهر على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة، مما يعني أنه اعتبرها من مستلزمات الدولة الديمقراطية ودعامة من دعامات دولة الحق والقانون.
كما تجدر الإشارة إلى أن الدعوة إلى ترشيد الحكامة الأمنية جاءت من ضمن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة (والتي دعا الدستور نفسه إلى تفعيلها) في تقريرها النهائي والذي حدد مجموعة من الإجراءات، من أبرزها ضرورة إخضاع الأجهزة الأمنية للمراقبة البرلمانية، بما يجعل هذه المراقبة تطال كل الممارسات والتدخلات التي تمارسها هذه الأجهزة ومسؤولوها وأفرادها، وذلك بما للبرلمان من سلطة رقابية على مختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها وعلى السياسات العمومية، بما في ذلك السياسات والممارسات الأمنية.
إن الحكومة اليوم، وباعتبارها حكومة سياسية ناتجة عن صناديق الاقتراع، مسؤولة بشكل تضامني عن كل العمليات الأمنية وعن حفظ النظام العام وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أقرها الدستور الجديد الذي خص الحقوق والحريات بباب كامل، إذ إن من شأن إقرار المسؤولية السياسية للحكومة عن قطاع الأمن وأجهزته، سواء من الناحية الرسمية القانونية أو العملية، أن يجعل ممارستها في صلب المراقبة البرلمانية والقضائية، مما يحتم على السلطة التنفيذية ويلزمها، في إطار إقرار مقتضيات الحكامة الأمنية، بإخبار الجمهور والبرلمان بالتوجهات الكبرى للسياسة الأمنية وبالتبعية بأية أحداث استوجبت تدخل القوات العمومية، وبمجريات ذلك بالتدقيق، وبالعمليات الأمنية ونتائجها والمسؤوليات المترتبة عنها. كما أن سبل المراقبة تستدعي وضع تقارير مفصلة عن الوقائع والعمليات ومختلف التدخلات الأمنية والحصيلة الناتجة عنها وأسباب ما يمكن أن يحصل من شطط أو تجاوز، وكذلك إقرار الإشراف السياسي على عمليات الأمن وحفظ النظام العام، وذلك بتحديد الجهة مصدرة الأوامر بشكل دقيق، مع توضيح آليات ومراحل اتخاذ القرار الأمني. كما أن الوضعية القانونية والتنظيمية لمختلف أجهزة الأمن ومسألة توضيح العلاقات في ما بينها وحدود اختصاصاتها، والإمكانات القانونية المتاحة لها للتدخل، ومصادر تمويلها والمسؤولين عنها وحدود الهامش المتاح لهم لاتخاذ القرارات، كل هذا أصبح من الضروري توضيحه ونشر الإطار القانوني والنصوص التنظيمية المتصلة به في ما يتعلق بصلاحيات وتنظيم مسلسل اتخاذ القرار الأمني، وطرق التدخل أثناء العمليات، وأنظمة المراقبة وتقييم عمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والسلطات الإدارية المكلفة بحفظ النظام العام أو تلك التي لها سلطة استعمال القوة العمومية.
ورغم الإقرار المسبق بالإمكانية القانونية المتاحة للأجهزة الأمنية لاستعمال القوة عند الحاجة إليها وفق الضوابط القانونية، فإنه وجب تدقيق الكلام بخصوص معايير وحدود استعمال هذه القوة التي يفرض القانون والمعايير الدولية لحقوق الإنسان تناسبها مع الهدف الأمني الضروري لحفظ النظام، الأمر الذي يقضي بإلزامها بالاحتفاظ بكل ما يوثق لقرار التدخل أو اللجوء إلى القوة العمومية، فضلا عن الإمساك بالتقارير والإشعارات والمراسلات المتصلة بها، وإبطال الأوامر والتعليمات الشفوية، إلا في حالة الخطر الحال، على أن تستتبع الأوامر الشفوية بأخرى مكتوبة وموقعة توثق وتؤكد الأمر الشفوي المستعجل. ولتجنب الكثير من القرارات الفردية في المجال الأمني أو ما يحدث في كثير من الأحيان من إفراط في استعمال القوة، في مخالفة للأوامر الصادرة أو للقرار السياسي الأمني، وجب التنصيص على المسؤولية الإدارية والجنائية الصارمة للعناصر الأمنية المتورطة، هذه المسؤولية التي تستتبع الجزاء والمعاقبة.
إن ما يحدث من تجاوزات أمنية، سواء عند اتخاذ القرار أو عند تنفيذه، يمكن تجاوزها أو التقليل منها باعتماد تكوين متواصل لمسؤولي وأعوان السلطة والأمن في مجالات حقوق الإنسان، وذلك بالاستناد إلى ما أقره الدستور من مبادئ في هذا المجال، وكذا التشريعات الوطنية المتعلقة بحقوق الإنسان والمعايير الدولية.
وفي الأخير، يبقى أن نشير إلى أن تحسين صورة الأجهزة الأمنية لدى المواطن وتغيير كل ما يرتبط بها من تمثلات سلبية لدى المجتمع، يقتضي العمل على تقنين وإتاحة حق الولوج إلى المعلومات المتعلقة بالعمليات الأمنية وحفظ النظام العام، وإقرار مراقبة سياسية وقانونية وإدارية على كافة السلطات الأمنية.

< < عبد الصمد الإدريسي > >
   

الحكامة الامنية.

اعتماد المسؤولية الحكومية في مجال الأمن والمراقبة والتحقيق البرلماني وتحديد معايير وحدود استعمال القوة
وضع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (المجلس الوطني لحقوق الإنسان حاليا) في إطار تفعيل توصيات "هيأة الإنصاف والمصالحة" خارطة طريق للحكامة الأمنية لتأهيل منفذي القوانين حقوقيا ولتفادي وقوع انزلاقات شبيهة بما حدث في "سنوات الرصاص". وتتضمن التصورات التي جرت مناقشتها في عدة لقاءات وندوات شارك فيها جميع المتدخلين، سبعة محاور رئيسية تتفرع عنها مجموعة من الاقتراحات. 
وبخصوص المحاور الرئيسية، أشير، في خارطة الطريق، إلى اعتماد المسؤولية الحكومية في مجال الأمن، والمراقبة والتحقيق البرلماني في مجال الأمن، وتحديد وضعية وتنظيم أجهزة الأمن، والمراقبة الوطنية للسياسات والممارسات الأمنية، والمراقبة الإقليمية والمحلية لعمليات الأمن وحفظ النظام،
وتحديد معايير وحدود استعمال القوة، والتكوين الممنهج لأعوان السلطة والأمن في مجال حقوق الإنسان. 
وسعيا منها إلى التجاوب مع مبادئ الحكامة الأمنية اعتمدت المديرية العامة للأمن الوطني مجموعة من التدابير والآليات، وكانت البداية بالمبادرة إلى بتنظيم جهاز  الأمن (شق التدبير الإداري)، وفي هذا السياق صدر ظهير 23 فبراير 2010، ليضع هيكلة جديدة، بسن نظام أساسي لرجال الأمن، استجاب لتطلعات مختلف العاملين في سلك الشرطة، كما لبى متطلباتهم الاجتماعية والوظيفية.
وإضافة إلى القانون الأساسي أعدت تنظيما هيكليا جديدا للمصالح المركزية والخارجية للأمن، يوجد حاليا قيد الدراسة لدى الأمانة العامة للحكومة، ومن مميزاته أنه يراعي مطلب الأمن الذي ينادي به الحقوقيون والمواطنون.
وفي سياق تكريس مبادئ حقوق الإنسان لدى العاملين في جهاز الأمن تفعيلا للحكامة الأمنية الجيدة، أعد مشروع لتكوين أعوان ورجال الأمن في مجال حقوق الإنسان.
وعلى هذا الأساس بادرت المديرية العامة للأمن الوطني لتدريب عناصرها على الحكامة الأمنية لإشاعة ثقافة حقوق الإنسان، وحقوق اللاجئ، والحقوق المترتبة عن القانون الدولي الإنساني. 
وأبرمت المديرية العامة للأمن الوطني اتفاقية شراكة مع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ووزارة الداخلية وقيادة الدرك الملكي، تقضي بإعداد دليل عملي لموظفي تنفيذ القانون، يوضح تطبيقات حقوق الإنسان في المجال الأمني.
وأدرجت إدارة الأمن الوطني بين مناهج التكوين بالمعهد الملكي للشرطة وبمختلف مراكز تكوين رجال الأمن، فصولا دراسية لتدريس مادة حقوق الإنسان. 
وجندت المديرية العامة للأمن الوطني لهذا الغرض مجموعة من أطرها وأساتذة مختصون لتكوين عناصرها حول حقوق الإنسان وسبل مناهضة التعذيب، روعي فيه أن لا يكون تخصصيا، بل موجها لجميع العاملين في جهاز الأمن. 
وحسب مصدر مطلع، فإن من الأهداف الرئيسية لهذا التكوين وقاية موظفي الأمن الوطني من الوقوع في متاهات ارتكاب أعمال أو تجاوزات تطالها مقتضيات جريمة التعذيب أو غيرها من جرائم شطط الموظفين في استعمال سلطتهم إزاء الأفراد، إضافة إلى الرفع من مؤهلاتهم للتصدي لهذه الممارسات التي تتعارض مع طبيعة ومقومات العمل الشرطي، الذي يهدف إلى حماية الحقوق والحريات والمحافظة على النظام العام بمدلوله الشامل.
وتشمل مناهج تكوين رجال الأمن على حقوق الإنسان فصلا خاصا بالمصادر الدولية لحقوق الإنسان، ومنها "اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو المهينة أو اللاإنسانية"، وكذا البروتوكول الاختياري الملحق بها، بالإضافة إلى المقتضيات القانونية الخاصة ذات الصلة، والمضمنة على وجه الخصوص في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وكذا مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية حقوق الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، زيادة على فصل خاص بالآليات القانونية الوطنية لمناهضة التعذيب، ومنها آلية الحماية المتمثلة في المؤاخذة عن جناية التعذيب، وما يلحق بها من جرائم شطط الموظفين في استعمال السلطة إزاء الأفراد.
وضمن المناهج أيضا التكوين في مجال الشرطة القضائية وأساليب البحث الجنائي، لترسيخ الحكامة الأمنية لدى رجال الأمن، والهدف منها الرفع من مؤهلات موظفي الأمن الوطني المكلفين بمهام الشرطة القضائية في التصدي لممارسات التعذيب، من خلال الكشف عن هذه الأعمال وإثباتها وضبط مرتكبيها وتقديمهم إلى العدالة.
وحرصت المديرية العامة للأمن الوطني على الاهتمام بتلقين المبادئ والأساليب الناجعة في مجال البحث والتقصي بشأن جرائم التعذيب وغيرها، لتفادي نهج رجال الأمن لأساليب مجرمة قانونيا لانتزاع اعترافات من المتهمين. 
وعلى صعيد الجانب الأساسي المتعلق بحدود استعمال القوة، وتكريس المراقبة على مصالح الأمن، أصدرت المديرية العامة للأمن الوطني، خلال الأشهر الأخيرة، سلسلة من العقوبات الإدارية المناسبة في حق رجال أمن ارتكبوا أفعالا منافية لمقتضيات حقوق الإنسان، مع حفظ حق القضاء في اتخاذ العقوبات الجنائية الملائمة. 
ووفق مصادر مطلعة، فإن المجلس التأديبي للشرطة أصدر في سنة 2006، عقوبات تأديبية في تسعة رجال أمن تراوحت بين العزل والتوبيخ.
وفي سنة 2007 عاقب ثمانية آخرين وتراوحت العقوبة بين بين التنقيل والتوبيخ والإنذار. ولم تسجل في سنة 2008 أي ملاحقة من أجل الأعمال والممارسات المشمولة باتفاقية مناهضة التعذيب، بينما سجلت ثلاث حالات سنة 2009 اتخذت في شأنها عقوبات في حق مرتكبيها.
ونظمت إدارة الأمن الوطني، في إطار سعيها إلى إشاعة ثقافة حقوق الإنسان بين موظفيها، زيارات ميدانية لفائدة المتمرنين من مختلف الرتب إلى مقرات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وديوان المظالم وغيرها من الهيآت. 
وشاركت المديرية العامة للأمن الوطني أيضا في اليوم الدراسي الذي نظمته وزارة العدل عند صدور قانون مناهضة التعذيب، بمداخلة ألقاها إطار أمني في موضوع "قانون مناهضة التعذيب: آليات التنفيذ وإشكاليات التطبيق". 
وتوفد المديرية العامة الأمن الوطني مجموعة من أطرها للمشاركة في الحلقات العلمية التي تنظمها جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بالرياض في موضوع احترام حقوق الإنسان ومناهضة التعذيب، كما أنها تشارك باستمرار في جميع الندوات التي تنظم سواء بالداخل أو الخارج في هذا الموضوع.
والمثير للاهتمام أن المديرية العامة للأمن تتولى حاليا التنسيق مع كتابة اللجنة الوطنية للقانون الدولي الإنساني، من أجل تدريس تطبيقات هذا القانون وتأهيل موظفي الأمن في هذا المجال.
ولعل الأبرز في الحكامة الأمنية أن المشرع المغربي حرص على تحقيق توازن بين حق الدولة في استتباب الأمن وحق الفرد في صون حريته وكرامته.
وجرى التنصيص ضمن قانون المسطرة الجنائية على مجموعة من الضمانات والشكليات التي تناهض التعسف والتجاوز، كلما تم إعمال تدبير قهري ماس بالحريات والحقوق الفردية. 
واتخذت المديرية العامة للأمن الوطني عدة تدابير احترازية لحماية المشتبه فيهم الذين يوضعون تحت الحراسة النظرية وتفادي حدوث أي انزلاقات في مجال حقوق الإنسان، وجرى التنسيق مع مديرية الشؤون الجنائية والعفو بوزارة العدل، من أجل تفعيل مقتضيات المادة 66 من قانون المسطرة الجنائية، سيما في الشق المتعلق بسجل الوضع تحت الحراسة النظرية، ووضعت ثلاثة سجلات مبوبة بكيفية محكمة تضمن تسجيل كل ما يتعلق بالشخص المحتفظ به سواء تعلق الأمر بمدة الاستنطاق أو فترة الراحة أو طبيعة التغذية المقدمة، وهذه السجلات هي سجل الوضع تحت الحراسة النظرية، وسجل الوضع تحت المراقبة الخاص بالأحداث القاصرين المحتفظ بهم، وسجل الاتصال بالمحامي.
ولتفادي حدوث انزلاقات خلال مراحل البحث التمهيدي تفعيلا لمقتضيات المادة 293 من قانون المسطرة الجنائية والمادة 15 من اتفاقية مناهضة التعذيب، اللتين تنصان على عدم الاعتداد بأي اعتراف أو أقوال ثبت انتزاعها بالعنف أو الإكراه أو تحت طائلة التعذيب، بادرت المديرية العامة للأمن الوطني إلى تطوير أساليب التحري وإشراك العلم والتقنية الحديثة في خدمة البحث الجنائي، وذلك لتفادي النواقص التي كانت تعتري في السابق طرق البحث التقليدية أو الكلاسيكية التي كانت تراهن على الاعتراف وتعطيه حجية مطلقة.
ولعل تطوير آليات مختبر الشرطة التقنية بالرباط ومختبر الشرطة العلمية بالدار البيضاء على نحو يضمن تسخير العلم في استجلاء حقائق الجرائم ومساعدة العدالة، خطوة في هذا الاتجاه.
رضوان حفيان

jeudi 20 février 2014

المحكمة الدستورية من خلال دستور 2011

الاختصاصات الاستشارية
  نص الدستور على تدخل المحكمة الدستورية في العديد من أعمال السلطات السياسية, سواء تعلق الأمر بالملك أو رئيس الحكومة أو مجلسي البرلمان وهكذا, فان الملك لا يمكنه أن يحل مجلسي البرلمان أو احدهما إلا بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية طبقا للفصل 96 من الدستور.
كما أن رئيس الحكومة بدوره لا يمكنه أن يحل مجلس النواب بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري إلا بعد استشارة الملك ورئيس المحكمة الدستورية
كما أن الملك لا يمكن أن يعرض مشروع المراجعة الجزئية لبعض مقتضيات الدستور على البرلمان إلا بعد استشارة رئيس المحكمة الدستورية هذه الأخيرة التي لها صلاحية مراقبة صحة إجراءات هذه المراجعة والإعلان عن نتيجتها
الفصل في المنازعات بين السلطات العامة
الدستور منح المحكمة الدستورية مهمة الفصل في تنازع الاختصاص بين السلطات العامة. إذا دفعت الحكومة بعدم قبول كل مقترح قانون أو تعديل لا يدخل في مجال القانون, فإن المحكمة الدستورية هي المختصة للبت في كل خلاف في هذا الشأن بناء على طلب من احد رئيسي مجلسي البرلمان أو بطلب من رئيس الحكومة,كما انه لا يمكن تغيير النصوص التشريعية من حيث الشكل بمرسوم إلا بعد موافقة المحكمة الدستورية, وذلك إذا كان مضمون هذه النصوص التشريعية يدخل في مجال من المجالات التي تمارس فيها السلطة التنظيمية اختصاصها
الدستور منح للمحكمة كذلك صلاحية البت في مخالفة الاتفاقيات الدولية للدستور, وهكذا فإن المحكمة وعلى اثر إحالة الملك أو رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين أو سدس أعضاء مجلس النواب أو ربع أعضاء مجلس المستشارين الأمر إليها أن التزاما دوليا يتضمن بندا يخالف الدستور, فإن المصادقة على هذا الالتزام لا تقع إلا بعد مراجعة الدستورفيما يخص البت في الطعون الانتخابية,وشأنها شأن المجلس الدستوري.
منح الدستور المحكمة الدستورية اختصاص البت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء البرلمان, هذا بالإضافة إلى مقتضى جديد مرتبط بمنع ترحال البرلمانيين بحيث أن المحكمة الدستورية وبناء على إحالة من رئيس المجلس المعني بالبرلماني يمكن أن تجرد من صفة عضو في احد المجلسين كل من تخلى عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه للانتخابات أو الفريق أو المجموعة البرلمانية التي ينتمي إليها, بحيث أن المحكمة الدستورية تصرح بشغور المقعد بناء على إحالة من رئيس المجلس الذي يعنيه الأمر وذلك وفق أحكام القانون التنظيمي للمجلس المعني الذي يحدد أيضا أجال ومسطرة الإحالة على المحكمة الدستورية

البت في دستورية القوانين
على غرار المجلس الدستوري, فان المشروع احتفظ للمحكمة الدستورية بالاختصاصات الأصلية والوجوبية المستمدة من التجربة الفرنسية, ذلك أن القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية لكل من مجلسي البرلمان تحال وجوبا على المحكمة الدستورية قبل إصدار الأمر بتنفيذها لتبت في مطابقتها للدستور,
هذا في الوقت الذي وسع فيه المشروع من صلاحيات المحكمة الدستورية بخصوص المراقبة وذلك بإضافة صلاحياتها لمراقبة الاتفاقيات الدولية, إضافة إلى القوانين العادية وقلص من شروط وعدد الأعضاء المطلوب للإحالة على المحكمة الدستورية وأعطى الصلاحية للمواطنين للدفع بعدم دستورية القوانين المراد تطبيقها عليهم في قضية معروضة على المحكمة
  الجهات التي لها حق الإحالة على المحكمة
  يمكن للملك وكذا لرئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين وخمس أعضاء مجلس النواب وأربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين أن يحيلوا القوانين أو الاتفاقيات الدولية قبل إصدار الأمر بتنفيذها أو قبل المصادقة عليها فيما يتعلق بالاتفاقيات إلى المحكمة الدستورية لتبت في مطابقتها للدستور ويترتب عن قرار الإحالة على المحكمة الدستورية وقف اجل إصدار الأمر بتنفيذ القانون أو الاتفاقية الدولية موضوع الإحالة.
الدفع بعدم دستورية القوانين
من أبرز الاختصاصات التي أسندها الدستور إلى المحكمة الدستورية هو فتح المجال أمامها للمراقبة البعدية للقوانين عن طريق تمسك المتقاضين أمام قضاء الموضوع بالبت في دستورية القوانين. فقد منح الدستور المحكمة الدستورية اختصاص النظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون أثير أثناء النظر في قضية ما وذلك إذا دفع احد طرفي الدعوى بأن القانون الذي سيطبق في النزاع غير دستوري, أي انه يمس بأحد الحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.

علاقات المغرب بدول جنوب الصحراء.

شهدت العلاقات المغربية الإفريقية، طوال فترات تاريخية، ازدهارا كبيرا، فلطالما لعب المغرب دور الوساطة التجارية بين ما كان يسمى بلاد السودان وأوربا، ونشطت من ثم العلاقات التجارية بين المغرب وعمقه الإفريقي، فقد اهتمت الأسر المتعاقبة على حكم المغرب بتنمية وتطوير هذه التجارة، وعيا منها بأهميتها لتقوية البلاد وضمان مداخيل قارة لخزينة البلاد، 
بل أكثر من ذلك أن بعض الدول التي تأسست بالمغرب، كالمرابطين والعلويين، اعتمدت في انطلاقتها على مراقبة تجارة السودان، وهكذا فإفريقيا حاضرة ومؤثرة في تاريخ المغرب. وحرص المغرب في كل الفترات التاريخية التي مر بها على الحضور الفاعل داخل المعترك الإفريقي لضمان موطئ قدم متقدم داخله والهيمنة على تجارته بل وضمان ولاءات عابرة لحدوده.
وقد وصل الحضور المغربي القوي في إفريقيا أوجه خلال العصر الحديث زمن حكم الدولة السعدية، حيث لبست بلاد السودان عباءة مغربية خالصة، عندما قام السلطان المنصور الذهبي بفتحتها سنة 1585م على يد القائد المغربي جودر. وفي هذا الصدد، يروي الفشتالي في كتابه «مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا»، ص 39، أن الجيش المغربي استُقبل استقبال الأبطال الفاتحين، وهكذا أصبحت ممالك إفريقية في الغرب الإفريقي بكاملها تابعة للبلاط السعدي، وتقاطرت رسائل الولاء العابر للحدود على السلطان المنصور الذهبي من تخوم السودان، كما تدفقت على المغرب في الآن نفسه خيرات بلاد السودان حتى نُعت السلطان السعدي آنذاك بالمنصور الذهبي لكثرة ما كان يرد عليه من ذهب السودان. وقد أسهبت الروايات التاريخية في وصف عظمة الدولة المغربية بما تقوت به من خيرات السودان، وهكذا فالمغرب تقوى بإفريقيا ورسخ وجوده بها في فترة تاريخية حساسة للغاية تميزت بامتداد الغرب وانطلاقته، ومن هنا تبنت أوربا المسيحية فكرة «إمبراطورية مراكش» طوال العصر الحديث.
وإلى جانب العلاقات السياسية والاقتصادية التي ميزت هذه الفترة التاريخية، فقد نشطت العلاقات الروحية والدينية بين الطرفين، فالمغرب يعود إليه الفضل في نشر الإسلام السني المالكي في تخوم إفريقيا السمراء عبرالزوايا برعاية رسمية، وهو ما أثمر في النهاية امتداد الإسلام داخل القارة الإفريقية، وما نشهده من ترابط صوفي وتعلق العديد من الدول القارة، خصوصا في غرب إفريقيا بالمغرب، لهو خير دليل على هذا الإرث التاريخي الذي راكمه الجانبان.
غير أن هذا التراكم التاريخي بدأ يتراجع مع وصول طلائع المكتشفين الأوربيين إلى الساحل الغربي لإفريقيا، إذ أخذ معه الحضور المغربي في هذه الأصقاع يشهد بعض الانحسار، بعد ما تمكن الأوربيون من الوصول عبر المحيط الأطلنتي إلى إفريقيا دون ما حاجة إلى الوساطة المغربية، ومن ثم تضررت العلاقات الاقتصادية المغربية الإفريقية وتراجع في الآن نفسه الحضور والتأثير السياسي المغربي على إفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن العلاقات الدينية والروحية ظلت مستمرة.
وقد كانت لهذا الوجود الغربي في إفريقيا انعكاسات سلبية للغاية على الاقتصاد المغربي الذي عانى من تراجع مداخيل تجارة السودان، ومن ثم بدأ الضعف يتسرب إلى الدولة المغربية وتدهورت وضعية المدن الواقعة على طريق السودان. ولا يعني هذا أن الأفارقة استسلموا لهذا الوضع الذي وجدوا أنفسهم مجبرين على التعايش معه، بل تقاطرت برقيات الاستنجاد على السلاطين المغاربة في مطلع القرن التاسع عشر لرد الخطر المسيحي الداهم للغرب الإفريقي، غير أن المغرب في هذه المراحل التاريخية لم يعد قادرا حتى على مقارعة الماكينة العسكرية الأوربية الحديثة في ما سمي فترة التجاوز الأوربي كما قال بذلك ذ. عبد المجيد قدوري. وهكذا خاب أمل الممالك السودانية في إمكانية إحياء الدور السياسي المغربي في إفريقيا جنوب الصحراء، ليُفسح بذلك المجال واسعا أمام الفرنسيين للتدخل والهيمنة على الغرب الإفريقي بكامله.
واليوم، تبدو الحاجة ماسة إلى إحياء الدور المغربي في إفريقيا والعودة به إلى جذوره الإفريقية من خلال سياسة دبلوماسية إفريقية تعيد إلى المغرب هيبته الضائعة داخل القارة وتحيي إرثه التاريخي هناك.
فالقرار السياسي في هذا الشأن قرار استراتيجي تمليه الضرورات الداخلية والإقليمية والعالمية والتحديات المرتبطة بها من قبيل النزعة العالمية نحو التكتلات الجهوية وتعزيز الأدوار الإقليمية للدول خدمة لقضايا التنمية وحماية المصالح الاستراتيجية الكبرى للدول في أفق تحقيق الأمن القومي واكتساب أوراق إقليمية تكون أوراقا رابحة في الرهانات التنموية الداخلية والخارجية.
ومن هنا، فالمغرب مدعو إلى تعزيز حضوره الإفريقي وبناء علاقات استراتيجية مع دول إفريقيا جنوبالصحراء في إطار سياسة دبلوماسية إقليمية إفريقية تضمن له قيادة جهود القارة لرفع تحديات العولمة ولمَ لا التحدث باسم إفريقيا في المحافل الدولية، فلقد تضررت العلاقات المغربية الإفريقية من خلال التركيز الكبير على الانفتاح شمالا من خلال تعزيز العلاقات بالاتحاد الأوربي على حساب العلاقات المغربية الإفريقية، وهو ما ترتب عنه ترك الساحة فارغة لأعداء المغرب لكي يعيدوا رسم الوضع القاري بعيدا عنه بكل إرثه وثقله التاريخي والثقافي.
لقد كان قرار المغرب بمغادرة منظمة الوحدة الإفريقية عندما قبلت الأخيرة بجبهة البوليساريو عضوا فيها قرارا غير صائب، من وجهة نظرنا، لأنه أسدى خدمة جليلة إلى المخطط العدائي الذي كان يستهدف مكانة المغرب الإفريقية، وقد نجح ذلك المخطط عندما اتخذ هذا الأخير بالفعل قرار الانسحاب من المنظمة، إذ فتح ذلك البابَ واسعا للتآمر عليه، وجر عليه اعتراف العديد من الدول الإفريقية بما يسمى بجبهة البوليساريو، بينما جلسنا نتفرج لسنوات على تآكل الدبلوماسية المغربية ذات البعد الإفريقي. وقد بدا المغرب للمتتبعين وكأنه دولة معزولة عن محيطها، في إطار مخطط محكم تقوده الجارة الجزائر ومن يسير على خطاها في طروحاتها الانفصالية.
المطلوب الآن إعادة النظر في السياسة الخارجية المغربية، خصوصا في شقها الإفريقي، والتخلي عن المقاربة المرتكزة على دبلوماسية الموقف من الصحراء المغربية التي يبني عليها المغرب علاقاته الخارجية مع دول القارة الإفريقية لأنها سياسة لم تعد مجدية، في اعتقادنا، والمدارس الدبلوماسية الحديثة تجاوزت هذه المقاربات، لذلك سيكون من الأجدى تغيير قواعد اللعبة الدبلوماسية المغربية بالانفتاح على الدول الإفريقية النظر المعياري إلى موقفها من قضية الصحراء، وفتح قنوات الحوار مع هذه الدول وتعزيز علاقتنا الاقتصادية معها، وإجراء حوار معمق معها حول القضية الوطنية من موقع المصالح الاقتصادية، طالما أن السياسة العالمية الحالية لا تفهم إلا لغة المصالح المتبادلة أو ما يصطلح عليه بالواقعية السياسية.
يتبع...
رشيد الجبوري - أستاذ باحث

المحدد الديني في العلاقات المغربية الافريقية.

تعد الجغرافيا في مقدمة العوامل المادية الدائمة في السياسة الخارجية باعتبارها أكثر المقومات تباثا(1)، وذلك على حد تعبير الزعيم الألماني "بسمارك" الذي أكد أن الجغرافيا هي العامل الدائم في السياسة، مشيرا إلى أنه إذا كان التاريخ مكون من عدة عناصر منها ما يتغير في نوعه أو حجمه، فإن هناك شيء أساسي لا يتغير وهو الموقع الجغرافي(2) . من هنا يفرض القول بانتماء المغرب جغرافيا لإفريقيا التي تشكل بالنسبة له الفضاء الطبيعي والامتداد الاستراتيجي، لدرجة ذهب الملك الراحل "الحسن الثاني" بوصف المغرب بشجرة جذورها المغذية في إفريقيا. وسياسيا فقد تجسدت هذه الإرادة من خلال التنصيص في كافة الدساتير المغربية المتعاقبةعلى اعتبار المغرب دولة إفريقية تجعل من بين أهدافها تحقيق الوحدة الإفريقية(3) .
لكنه رغم الاعتبارات الجغرافية التي تربط بين المغرب ومحيطه الإفريقي، فإن علاقاته بالقارة السمراء ستتحكم فيها عوامل أخرى من بينها الجوانب الدينية المتمثلة في الروابط الروحية والثقافات المشتركة، نظرا للفوائد السياسية والمنافع الاقتصادية وكدا المصالح الوطنية التي يمكن جنيها من خلال استثمار العوامل الدينية والانتماء للعالم الإسلامي كأوسع مجموعة بشرية في الوقت الراهن الذي يشمل بدوره بعض البلدان الإفريقية(4) .
فإذا كانت باقي المحددات (الجغرافية والاقتصادية...) تتحكم بشكل متفاوت في توجيه السياسة الخارجية المغربية تجاه إفريقيا ودعم علاقات المملكة مع القارة السمراء، فإن ذلك لا ينفي قصور أو ضعف المحدد الديني المتمثل في الدور الذي تلعبه الثقافات والطقوس الإسلامية في تحديد هذه العلاقة، وإنما يمكن القول بأنه قد يشكل في بعض الأحيان أكثر العوامل تحكما في تحديد العلاقات المغربية الإفريقية، كما هو الشأن بالنسبة للدور الذي تقوم به الزاوية التيجانية بمدينة فاس على سبيل المثال كعامل ومحدد روحي وديني يدفع بعلاقة المغرب مع بعض الدول الإفريقية نحو التفاعل والتماسك، بغض النظر عن التوثرات السياسية أو الاقتصادية المتقلبة بين المغرب وهذه البلدان.
من هنا يطرح التساؤل الجوهري المتعلق بطبيعة الدور الذي يلعبه المحدد الديني في توجيه ودعم العلاقات المغربية الإفريقية ؟ وما هو الدور الذي تقوم به الطريقة أو الزاوية التيجانية في هذا السياق على سبيل المثال ؟


أولا : دور المحدد الديني في رسم العلاقات المغربية الإفريقية.

للمحدد الديني مجموعة مصادر تاريخية وثقافية جد هامة، لاسيما وأن المغرب ملتزم دستوريا بطابعه الإسلامي، ومنذ دخول الإسلام للمغرب استطاع أن يجعله ركيزة ظواهره الثقافية وحياته السياسية الداخلية والخارجية(5) .
فقد وفر انتشار الدين الإسلامي وقيمه الروحية في المغرب فرصة سانحة لتحقيق الانصهار الحضاري بين كل من المغرب والدول الإفريقية، مما هيأ الأجواء المناسبة لتمركز العديد من الزوايا والطرق الصوفية في أرجاء إفريقيا، ساهمت بنصيب هام في تحديد ودعم الروابط الدينية بين سكان المغرب والشعوب الإفريقية(6) .
وللإسلام تاريخ طويل في إفريقيا يمتد إلى أزيد من عشرة قرون، إذ ساهم في خلق فضاء ديني وثقافي مكن على مر الزمن من تكريس الاستمرارية بين شمال إفريقيا وباقي مناطق القارة، مما حدى بالبعض إلى القول بأن الجزء الشمالي لإفريقيا يعتبر بمثابة المرجعية الدينية للجزء الجنوبي للقارة السمراء، الأمر الذي سهل وأثر بشكل كبير في غلبة سمات الثقافة المغربية التي انتشر فيها المذهب المالكي، وساد مجتمعاتها التسامح الذي يجمع بين الإسلام وبعض المعتقدات التاريخية(7) .
منذ ذلك الحين ظل المغرب على الدوام ملتقى لتفاعل الحضارات والثقافات بفضل تشبثه بقيم الحرية والتسامح والانفتاح، مما أهله لأن يمد جسورا لنشر الإسلام وقيمه المثلى بأسلوب حضاري متميز، ولاسيما في غرب إفريقيا. وتكاد تجمع أغلب كتب التاريخ على أن أولى خطوات المغرب عبر درب نشر الإسلام في هذه الربوع الإفريقية بدأت قبل القرن الحادي عشر الميلادي بسنوات عديدة، وذلك عن طريق المبادلات التجارية مع بلاد السودان؛ وهو اللفظ الذي كان يطلق على دول إفريقيا الغربية حاليا، مما يفسر الدور الذي لعبه العامل الديني في تحديد وكشف أواصر العلاقات الوطيدة بين المغرب والدول الإفريقية.
وسواء عن طريق الإسلام والروابط الثقافية الدينية أو بناءا على محددات وعوامل أخرى سياسية واقتصادية، فقد حافظت المملكة المغربية منذ قرون على صلات قوية بجيرانها في الجنوب، وكانت أبرز حلقات الوصل بينهما مبنية خصوصا على أسس دينية تتمثل بشكل جلي في الزوايا والطقوس الدينية، مما أدى إلى تكوين هوية متميزة بالبلدان الإفريقية خاصة دول جنوب الصحراء، تحمل نفحات من الروح الإسلامية والعربية والمغربية الأصيلة، وازدهرت بها حياة ثقافية مرتكزة على تعاليم الإسلام السمحة(8) .
ووفقا لذلك أصبحت الطرق الصوفية والزوايا من الظواهر الإسلامية والاجتماعية التي لا يمكن إغفالها في تاريخ المغرب مع إفريقيا، حيث نشأت كمراكز علمية ودينية لهدف تربوي تعليمي، وكملاجئ للمحرومين وأبناء السبيل، ومنتدى للعلماء والفقهاء والطلبة، ومواقع تبصر فكري وديني كذلك. وكانوا مؤسسوا الزوايا من المشايخ الذين نالوا احترام الناس وتقديرهم لورعهم وتقواهم، ويذكر أن الخطاب المغربي الذي كان موجها صوب إفريقيا السوداء في ذلك الوقت كان بعيدا ومفارقا للخطاب الأوروبي القائم على العنف والسيطرة. فعلى خلاف ذلك نفذ المغرب إلى إفريقيا عن طريق إشعاع حضاري كان مثار إعجاب الرجل الإفريقي وتقديره لسلوك العلماء الذين تمكنوا من لفت الأنظار إليهم بما نهجوه من سلوك قويم ومعاملات طغى عليها التسامح والوفاء على أساس حسن النية وأن المُلك لله وحده، وبالتالي فالأرض أرض الله والناس عامة عبيد الله، لا يفرق بينهم إلا بالتقوى والإيمان بالرسالة المحمدية.
من هنا تمكنت الزوايا والطرق الصوفية من خلال توظيفها للعامل الديني الإسلامي من القيام بمد قنوات الحوار والتواصل وصيانة نسيج العلاقات الحضارية والسياسية بين المغرب وإفريقيا، إذ وجد هذا الأسلوب الديني قبولا من طرف الأفارقة، ساعد على تغلغل طقوس الزوايا المغربية وتعاليمها الصوفية في الجزء الجنوبي والغربي لإفريقيا بشكل خاص، مما جعلها تلعب دورا تاريخيا في مواجهة حركات التبشير المسيحية التي غمرت القارة الإفريقية مع انطلاق الحركات الاستعمارية وإنهاك المغرب في مواجهة قضاياه الداخلية وصموده أمام التحرشات المستهدفة للنيل من سيادته واستقلاله(9) .
وفي هذا الإطار ذهب بعض الفقهاء إلى التأكيد بأن معظم الزوايا والطرق الصوفية الإسلامية المنتشرة في إفريقيا أصلها من شمال إفريقيا، وهي كل من الزاوية القادرية والزاوية التيجانية على سبيل المثال، وتعد هذه الأخيرة أهمهم وأنشطهم بفضل الدور الذي تلعبه في دعم وتوطيد العلاقات بين المغرب ودول القارة السمراء.


ثانيا : الطريقة التيجانية كآلية دينية لدعم العلاقات المغربية الإفريقية.

لقد كانت المدينة المغربية العتيقة فاس المكان الذي اختاره شيخ الطريقة التيجانية "سيدي أحمد التيجاني" لكي يقيم به زاويته الصوفية التي أصبحت إحدى الزوايا الأكثر شهرة واستقطابا في تاريخ إفريقيا ومنطقة المغرب العربي. هذا المتصوف الكبير الذي ازداد بقرية "عين ماضي" منحدرا من قبيلة أمازيغية تدعى "تيجان" بمنطقة تلمسان بالجزائر، الذي استقر بفاس سنة 1789 ميلادية وأسس بها سنة 1801 الزاوية التيجانية، ثم أقام بهذه المدينة إلى حين وفاته. هذه الزاوية التي توجد في قلب حي استراتيجي تتجمع فيه أغلب الأنشطة التجارية على مقربة من جامع القرويين وغير بعيد من ضريح مولاي إدريس(10) .
لقد انتقلت الطريقة التيجانية إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء عبر بعض المريدين الشناقطة، خاصة محمد الحافظ العلوي الشنقيطي. إذ كانت العادة الجارية في طلب العلم لدى أهل السنغال وغيرهم من أهالي إفريقيان الانتقال إلى محاضر العلم الشنقيطية، ثم بعد ذلك يدخلون للمراكز العلمية المغربية، وعبر هذه القناة عرفت التيجانية طريقها الأول جنوب نهر السنغال، ومن تمت الانتشار داخل القارة الإفريقية(11) ، لدرجة أصبحت تمثل القوة الإسلامية الأولى في حوض السنغال والنيجر، ودخل في الطريقة التيجانية عدد كبير من سكان منطقة "فوتاتورو" و"فاتاجالون" في الغرب الإفريقي وقبائل المنطقة الذين صاروا من أشد أنصار الإسلام، إلى جانب عدد هائل من القبائل والجهات التي دخلت الطريقة التيجانية، والأمر الذي أدرك من خلاله المغاربة مدى نجاعة تأثير هذه الحركة الصوفية وتجدرها في نفوس الأفارقة، وتمكنها من تغطية الفترة الزمنية التي سجل خلالها غياب السلطة المغربية الخارجية والممارسات الدبلوماسية نحو إفريقيا، إذ ظلت التيجانية كقناة صامدة من أجل استمرار التواصل المغربي الإفريقي، وبقيت إلى الآن مدينة فاس وضريح "سيدي أحمد التيجاني" محجا للوفود الآتية من غرب وجنوب إفريقيا(12) .
كما تتوفر الطريقة التيجانية على نخبة من الأتباع والمريدين، إذ تحكي عدة مؤلفات عن انتماء بعض أتباع الطبقة الأرستقراطية والعلماء المشهورين وذوي النفوذ والسلطان على هذه الطريقة الصوفية، إضافة إلى أن بعض السلاطين العلويين كالسلطان مولاي سليمان و مولاي عبد الحفيظ والملك محمد الخامس كانوا من الأتباع المتشددين للطريقة التيجانية ومن أكبر المدعمين لها(13) .
أما فيما يخص الدور الدبلوماسي الذي تقوم به الزاوية التيجانية في تكييف علاقة إفريقيا بالمنطقة المغاربية خاصة مع المغرب وبدرجة ثانية الجزائر، يمكن القول بأن هذه الزاوية تلعب دورا هاما ومحددا لا يستهان به في توجيه هذه العلاقات الإقليمية.
لذلك تحاول الجزائر في بعض الأحيان إحياء الطقوس التيجانية بدليل أن "سيدي أحمد التيجاني" من أصول جزائرية، لذلك قامت بعقد مؤتمر دولي ما بين 23 و25 نونبر من سنة 2006، جمعت فيه الإخوان التيجانيين من كل أنحاء العالم باستثناء التيجانيين المغاربة، الأمر الذي فسر آنذاك بتراجع الأدوار الدينية والدبلوماسية للتيجانيين المغاربة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
كما ذكرت بعض المصادر الجزائرية أن الجزائر ما كانت لتقدم على مزاحمة المغرب في هذا المجال الذي احتكره عبر التاريخ، لولا الفراغ الذي تركه التيجانيون المغاربة، لعدم أخذهم المبادرة في تنظيم المؤتمرات واللقاءات الدولية التواصلية مع تيجانيي العالم، تأكيدا للدور القيادي الذي لعبوه طيلة قرون من الزمن وتكريسا لنفوذهم الروحي الذي امتد خارج المغرب. إذ كان آخر مؤتمر جمع أقطاب الصوفية في العالم وفي إفريقيا على وجه الخصوص؛ ذاك الذي نظمه الملك الراحل "الحسن الثاني" بالمغرب سنة 1985، الذي خصص للطريقة التيجانية، ومنذ ذلك التاريخ فشل التيجانيون المغاربة من عقد لقاء ثان يجمع أعلام طريقتهم المنتشرين في العالم(14) .
إلا أن ذلك لا ينفي بأنه خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في عهد الملك محمد السادس، أعاد المغرب صياغة علاقته بالتيجانيين وبطريقتهم نظرا للدور الديني والدبلوماسي الذي تلعبه هذه الطريقة في خدمة المصالح الوطنية وعلى رأسها قضية الوحدة الترابية، من خلال محاولة جعل هذه الزاوية كقناة دبلوماسية مع دول القارة الإفريقية لتعزيز العلاقات معها.
ففي الجمع الأخير للمنتسبين إلى الطريقة التيجانية الذي عقد بالعاصمة الروحية والثقافية فاس أواخر شهر يونيو 2007، أكد كل التيجانيين الأفارقة على الدور الذي تقوم به هذه الزاوية في تمتين الروابط الخاصة بين المغرب وإفريقيا. وفي هذا السياق صرح المدير العام السابق لليونسكو السنغالي السيد "أمادو مختار امبو" بأن الطريقة التيجانية اطلعت بدور جوهري في التقريب التاريخي بين المغرب وإفريقيا ولاسيما السنغال، كما أكد بأنه إذا كانت العلاقات بين المغرب وإفريقيا جد عريقة، فإنها تعززت بفضل الطريقة التيجانية على اعتبار أن الآلاف من الأفارقة يعتبرون زيارة مدينة فاس واجبا دينيا من أجل استكمال حجهم إلى مكة. وفي نفس الإطار أشار من جانبه السيد "سيرين عبد العزيز سي الإبن" الناطق باسم الخليفة العام للتيجانيين بأن الطريقة التيجانية ساهمت بشكل كبير في إشعاع الإسلام واللغة العربية بإفريقيا، وأن دورها الهام في تعزيز الدبلوماسية الشعبية بين الشعب المغربي والشعوب الإفريقية معروف من لدن الجميع(15) .
من هنا يستنتج الدور الدبلوماسي الذي تلعبه الطريقة التيجانية في دعم وإحياء العلاقات المغربية الإفريقية عبر القنوات الدينية والصوفية، ومحاولة المغرب في وضع حد للمبادرات الدبلوماسية الخفية التي تقوم بها الطريقة التيجانية في إطار نزاع الصحراء المغربية من خلال العمل على الدفع بالمنتسبين التيجانيين الالتفاف حول ضريح وليهم "سيدي أحمد التيجاني" بفاس والعمل على كسب رهان المنافسة مع الجزائر حول استقطاب أتباع الطريقة التيجانية بإفريقيا(16) .
من هنا يمكن القول بأنه إذا كان المغرب يعمل جاهدا على جعل العامل الديني المتمثل في استثمار الطريقة التيجانية لجعل علاقات بالقارة السمراء تصب في خدمة مصلحته الوطنية، فعليه المزيد من الاهتمام بالزاوية التيجانية بفاس من جهة، والاهتمام بتيجانيي العالم وخاصة الأفارقة منهم، ثم تنظيم أساس مؤسساتي وديني صلب وقوي لجعل التيجانيين الأفارقة على وجه الخصوص ملتفين كل الالتفاف حول المغرب باعتباره الحضن والراعي الأساسي والأول لزاويتهم المقدسة بفاس. وهو الأمرالذي تم الاتفاق عليه خلال اللقاء الأخير للطريقة التيجانية بمدينة فاس أواخر شهر يونيو 2007(17)